ترقيع على شفا الكارثة
24/09/2007 08:10
في العام 2003 ألقى بوش في لندن خطابه الشهير الذي أعلن عدم قبول "الوضع القائم" في الشرق الأوسط وأن الاستقرار هنا(ك) لم يعد هدفا. كان ذلك إيذانا بافتتاح سياسة الحروب والفوضى. في هذه الأثناء تلقت السياسات الأميركية بعض دروس التكملة. ومن مظاهرها ذهاب رامسفيلد وتعيين روبرت جيتس.
كتب ديفد بروكس ( نيو يورك تايمز، 19 سبتمبر\ أيلول) عن محاضرة روبرت جيتس في مؤتمر حول مستقبل الديمقراطية في العالم في كلية "ماري اند وليم" في وليامز بورغ. في هذه المحاضر قرأ جيتس تاريخ السياسات الخارجية الأميركية كصراع بين "الواقعيين" والمثاليين"، وكأن هذا التاريخ يتمحور حول سؤال حاضر. هذا النوع من القراءة يحول توماس جفرسون "المثالي" إلى جد للمحافظين الجدد، ويسحب خيطا ممتدا إلى فوارق بين الرعيل الأول من الرؤساء: مثالية توماس جفرسون المشتقة من انتصاره لأفكار الثورة الفرنسية التي اعتبرها انتصارا للحرية، في مقابل جون آدمز المحافظ الذي اعتبرها حالة من الراديكالية غير المنضبطة.
حاول جيتس أن يضع أساسا تاريخيا للتوازن بين "مثالية" الرئيس الحالي ونائبه والواقعية المطلوبة بعد الحرب على العراق. وهو كما يبدو يعتبر نفسه مجسدا لهذا التوازن. ولذلك قرأ تاريخ التدخل الأميركي في الخارج "واقعيا" كتحالف مع طغاة لهزيمة طغاة آخرين، وجمع التغني بحقوق الإنسان والحرية مع التعامل مع أسوأ منتهكي حقوق الإنسان في الوقت ذاته. قال ذلك بصراحة تحرج بعض اللبراليين العرب وتابع: أنه ليس من النفاق ولا العدمية الجمع بين الإيمان الملتهب بالحرية وتبني طرق مختلفة لتعزيزها في مراحل مختلفة"، فهنالك "حاجة لتسويات مع الشر من أحل صنع الخير". وفي مقابلة تلت المحاضرة تابع يقول: "لم نحتل العراق من أجل الحرية، بل لإزالة نظام غير مستقر ولأن نظام العقوبات بدأ ينهار، والحرية قد تأتي كظاهرة جانبية مرافقة"، ولا حاجة أن يضيف: وقد لا تأتي.
وعلى سؤال هل كان على الولايات المتحدة أن تهاجم العراق بعد ما نعرفه الآن؟ أجاب جيتس بعبارة "لا أعلم". وهل كان إجراء الانتخابات في السلطة الفلسطينية فكرة حسنة؟ يقول جيتس " تُخلَطُ فكرة الانتخابات أكثر مما ينبغي مع فكرة الديمقراطية والحرية". إنه يقول عمليا: بإمكان أميركا وحلفائها أن يكونوا ديمقراطيين دون انتخابات...السؤال هو أين المصلحة ( الأميركية بالطبع)، هل هي في إجراء انتخابات في دولة ما أم لا؟ بالنسبة لإيران قال جيتس إنه يجب استخدام "القوة الناعمة"، قال ذلك بعد أن ذكَّر بكيفية استعراض رونالد ريجان للصلابة والتصميم عند إسقاط الطائرات الليبية فوق خليج سِدرا لتعرف كل دولة حدود قوتها، و"لتتعرف إيران على الفجوة بين خطاباتها السجالية وبين قوة نظامها الفعلية". من تفسير معنى القوة الناعمة (قوة دون حرب شاملة: حصار، عقوبات دولية، عمليات عسكرية) يضاف إليها إجابته بـ"لا أعلم" حول صحة ضرب العراق أن نحاول تحديد موقفه من حرب ممكنة على إيران.
يتضح من كافة الأجوبة أن جيتس على هدوئه ورصانته مقابل ثرثرة رامسفيلد "واقعي" يتحول ميكافللي إزاءه جروا صغيرا. ولكنه يساير رئيسه لكي لا يبدو واقعيا أكثر مما ينبغي. وهو في الواقع يمثل تغييرا في مستقبل السياسة الخارجية الأميركية كسياسة استعمارية واقعية دون مُثُلِ الحرية من خطاب بوش إياه والتي ادعى المحافظون الجدد تبنيها كإيديولوجية للإمبراطورية. هذا للمدى البعيد، أما للمدى القصير فكرر جيتس مقولة المؤرخ جوزيف إلِِّيس أنه في الوقت الحالي "يرقٍّع" أو "يعجق" أو "يتدبر أمر السياسة لحظيا وذلك على شفير الكارثة".
“improvising on the edge of catastrophe.”
هل كانت غزة كياناً صديقاً؟
لا معنى لإعلان إسرائيل غزة كيانا معاديا، لا قانونيا ولا مضمونا. فالقانون الإسرائيلي يشمل عبارات مثل "تنظيم معاد" أو "دولة معادية"...ولا ذكر لـ"كيان معاد". والإعلان بحد ذاته لا يغير وضع غزة في القانون الدولي الذي يلزم إسرائيل تجاهها ما دامت تحاصرها ولا تعترف بسيادتها على حدودها. وحتى لو اعترفت إسرائيل، لا يعترف الشعب الفلسطيني بغزة دولة مستقلة دون القدس ودون الضفة الغربية حتى حدود الرابع من حزيران، ودون حق العودة.
أما مضمونا فكيف يمكن أن توصف "العلاقات" بين غزة وإسرائيل قبل الإعلان؟ علاقة الواقع تحت الاحتلال بالمحتل هي علاقة عداء، ولذلك ليس من معنى للقول إن هذا الإعلان هو بمثابة إعلان حرب على غزة. أي حرب؟ وهل كان سلام؟ لقد جرفت المصطلحات الإسرائيلية جزءا من الشعب الفلسطيني لكي ينفي حالة العداء، كيف يمكن أن تمارس المقاومة والرد عليها بالقمع الشامل دون أن يكون هذا حالة عداء.
تمهد إسرائيل لخطوات عقوبات جماعية ضد قطاع غزة وتجهز الرأي العام لذلك. هذا هو معنى الإعلان. وقد بدا من تصريحات ليفني وأولمرت أنها تحسب حساب كل شيء إلا رد فعل الرئاسة والسلطة في رام الله، ناهيك عن رد الفعل العربي. فلن تصدر من هناك خطوات ذات معنى، بل إدانة من نوع الإدانات العربية التي لم نعرف حين كنا صبية أنها من ضمن ما يتسع صدر الغرب له من تفهم للعقل البياني العربي والحاجة السياسية الواقعية للكذب... وهو الكذب المفضوح المتفق رغم ذلك على الحاجة لترديده.
كيف ترد قيادة شعب معتدلة على خطوات عقوبات جماعية ضد شعبها؟ تدين، ثم تواصل التفاوض مع من يفرض هذه الخطوات، بما في ذلك حول نجاعتها، وتحضر التفاصيل لمؤتمر يعلم الجميع انه إما ألا يتوصل إلى اتفاق أو يتم فيه إعلان مبادئ تفريطي.
هؤلاء لا يريدون التخلي، ولكن ليس عن السلام، بل عن "عملية السلام". فما يحظى بهذا الدعم والرعاية والشعبية والحماس على مستوى الأنظمة العربية هو عملية السلام. وهي تحظى بهذا الدعم في حالة المشاركين الفلسطينيين، لأنهم يعاملون في كنفها كقيادة دولة دون دولة. ومن يحتاج إلى سلام عادل ودولة حين تكفي "عملية السلام" تكفي وفي هذا قال ابن شرف عن ملوك الطوائف الذين يعتقدون أنهم ملوك:
مما يُزَهّدُني في أرض أندلس......... أسماء معتصم فيها ومُعْتَضِد
ألقاب مملكة في غير موضعها..... الهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد
أما الآخرون من العرب الذي ارتفعت شعبية إسرائيل لديهم بعد ارتكابها أفظع الجرائم في لبنان فيريدون حسما مع أعداء السلام في المنطقة... كل هذا دون التوصل إلى سلام، فهو بذاته غير مهم إطلاقا.
الحمد لله، ليس في الأرجنتين
تعامل العراق التاريخي مع قضية فلسطين تعامل قومي شعبا ودولة. حتى في عهد نوري السعيد تم التعامل مع أعداد اللاجئين الفلسطينيين التي وصلت العراق بشكل معقول، تذكرت ذلك مؤخرا أثناء قراءة فصول من حياة الكاتب والمبدع الفلسطيني إحسان عباس وهو يصف وضع أهله اللاجئين من منطقة حيفا في العراق.
في هذه الأيام يقتل الفلسطيني في العراق لكونه فلسطينيا، وأضيف لذلك سبب جديد لم يكن ليخطر بباله ولا في كوابيسه، أقصد لأنه سني، وربما لأن خطاب النظام السياسي كان مؤيدا لفلسطين. ولا حاجة لإعمال الخيال في شرح الأسباب التي دفعت آلاف الفلسطينيين لتفضيل الإقامة على الحدود في الصحراء وسط اللامكان على العودة إلى بغداد. ولكن لم يكن ممكنا إقناع دولة عربية واحدة على استيعاب أعداد أخرى من اللاجئين العراقيين، فلسطينيين أو غير فلسطينيين، مع صعوبة خاصة فيما يتعلق بالفلسطينيين.
وجاء الجواب من البرازيل. سيتم استيعابهم هناك بإذن من الحكومة البرازيلية بعد مساع قام بها مواطنون من أصول عربية وفلسطينية هناك. في البرازيل. ما كان يعتبر يوما مؤامرة، أصبح بفضل لوضع العربي عونا وتضامنا. وهو مقارنة برد الفعل العربي كذلك فعلا.
طرح في الخمسينات مشروعان إسرائيليان شبه حكوميين لتوطين الفلسطينيين "مفتساع (عملية) يوحنان" (1950) والثاني، ويسمى " همفتساع هلوبي" (العملية الليبية) (1953). مشروع "عملية يوحنان" من بنات أفكار يوسف فايس الذي أصبح فيما بعد رئيس دائرة الاستيطان في الوكالة اليهودية، وهو صاحب "مآثر" في المصادرات والحيل الاستيطانية في الضفة الغربية طوال السبعينات. ورمى المشروع إلى ترحيل الفلسطينيين الباقين في فلسطين المحتلة عام 1948 من الجليل إلى الأرجنتين. هذا ما ورد في رسائل يوسف فايتس، من إلى يعكوف تسور، (أصبح ويزرا للزراعة فيما بعد) سفير إسرائيل في الأرجنتين (حزيران 1951.
وفشلت الفكرة، بعد أن تبين أن الترحيل يجب أن يتم بالقوة إذ فشل الترحيل الطوعي.
العملية الثانية: أعدها يوسف فايتس أيضا وتهدف إلى توطين الفلسطينيين الذين بقوا في فلسطين واللاجئين خارجها في ليبيا بمساعدة تجار أرض إيطاليين، ولا حاجة هنا للتفصيل.
بعد انتظار سنة في مخيم (عمليا معسكر اعتقال) على حدود صحراوية بين دول عربية وبدون مدارس ودون علاج ودون أدنى مقومات الحياة الإنسانية. يبدو السفر إلى البرازيل خلاصا. وقد يكون فعلا خلاصا فرديا لفتية وصبية ينتظرهم مستقبل ما ناجح.
إذا كان يوسف فايتس ما زال حيا، فلا بد انه يبتسم الآن.
في دول عربية كثيرة لا يتحدثون عن حق العودة بل عن رفض التوطين...واضح أن المقصود برفض لتوطين ليس حق العودة، ولكن يجب أن يضاف أن المقصود هو رفض التوطين "عندهم"، ولا بأس من التوطين في مكان آخر...وليكن البرازيل، أما كيف يخدم التوطين في البرازيل بقاء فكرة العودة مشتعلة أكثر من السكن بكرامة في البلاد العربية، فلا يبدو أن أحدا يعتقد انه مدين لأحد بإجابة.
ما هي الفريضة بالضبط؟
منذ أن حول الاستهلاك والبطر شهر الصيام إلى شهر الطعام شق علينا التخمين هل الفريضة الدينية هي الإفطار أم الصيام. فحول الإفطار تنسج الهالة ويكثر البذل والسخاء على المائدة، ومعه يتم التعامل بقدسية، وتكثر حوله الفتاوى والتيمنات بالرسول والخلفاء وغيرهم. ولكن حقيقة واحدة لن يسترها شيء في هذا الشهر الكريم: يزداد، بل يتضاعف استهلاك الطعام على أنواعه عند كافة الطبقات. كل هذا يحيي فينا ذكرى المحبة الخاصة لهذا الشهر الفضيل وأجوائه حين كان متواضعا خاشعا مثل إيمان الفقراء.
كل هذا يهون أمام استغلال الإفطارات الجماعية سياسيا، خاصة من طرف المستعمِرين كفرصة للتزلف لنا ولعاداتنا. فالمدخل الاستعماري التقليدي لـ"تفهم الشرقيين" هو "احترام عادتهم وتقاليدهم". وقد تصنع تقاليد لم تكن قائمة خصيصا لتقوية نخبة تقليدية معتدلة تلعب دور الوسيط مع الواقعين تحت الاستعمار وتمثل هذه العادات والتقاليد في الوقت ذاته.
ويعتبر المسؤولون الإسرائيليون الأعياد المسيحية مناسبة لزيارة المطارنة والكهنة والمعتدلين من أبناء هذه الطائفة أو تلك في حيفا والناصرة. وهي مناسبة ليتودد هؤلاء بسماجة تحسب نفسها خفة دم بعض العبارات بالعربية من نوع "كول آم وانتُ بخير"، وليعلن أولئك ولاءهم للدولة على نمط تعامل المؤسسات الدينية في أسوأ أحوالها مع المستعمِر. وطبعا هنالك استثناءات بارزة.
وهذا هو حال الأعياد الإسلامية. وفي شهر رمضان يبادر بعضهم لإفطارات جماعية يحضرها مسؤولون إسرائيليون. فعل هذا مؤخرا "صندوق ابراهام" لدعم التعايش (طبعا المقصود التعايش الذي يباع للمتخلفين عربا ويهودا وأميركيين كتعايش إسحاق وإسماعيل) إذ دعا لإفطار جماعي ضيفته وزيرة خارجية إسرائيل وحضره ممثلون عن عرب الداخل في إعادة إنتاج واجترار ممل ومهين لعلاقة المستعمِر بالمستعمَر... وكأن إفطار رمضان يهضم كل شيء.